

كلمة القاضي طنوس مشلب
استلم المجلس الدستوري الحالي مهامه من الهيئة السابقة ظهر يوم الثلاثاء الواقع فيه 27/8/2019 بعدما أقسم الأعضاء اليمين يوم الجمعة في 23/8/2019، وكان مدركا لقدسية ونبل المهمة الموكلة إليه ولكثير من الصعوبات التي قد تعترضه كونه سيكرس مبادئ العدالة، ويعطي لأحكام الدستور والمبادئ الدستورية مداها اللازم، مع ما قد يستتبع ذلك من وضع حد لتجاوز السلطات لصلاحياتها الدستورية، ولنهج سارت عليه كلها أو بعضها بسبب ظروف مرت بها البلاد أحيانا، أو بحجة وجود مثل تلك الظروف، عن غير حق، في أحيان أخرى،
وإن مثل تلك الصعوبات هي طبيعية ومتوقعة لأن السلطات بشكل عام كما الأفراد، إذا أعطيت صلاحية فإنها تطمح الى التوسع بها والقضم من صلاحيات السلطات الأخرى إن لم يكن ثمة رادع، كل ذلك في الظروف العادية، فكم بالأحرى في بلد مثل لبنان، تتوالى فيه الأزمات والأوقات الصعبة دون توقف، فلا يكاد يميل الى التعافي من كبوة حتى يتعرض الى كبوة ثانية أشد إيذاء، وهذا ما اعترض سير عمل المجلس الدستوري.
بعد خمسين يوم على بدء ولايته في العام 2019، كان قد أصدر خلالها قرارين في طعنين استلمهما من الهيئة السابقة، وكثف اجتماعاته ليتمكن من طباعة الكتاب السنوي على خطى أسلافه، فناقش المواضيع التي يمكن أن تشكل مادة للكتاب، وباشر بعض أعضاء المجلس وأصحاب الاختصاص، في القانون الدستوري والقانون العام الذين جرى الاتصال بهم، بتحضير دراساتهم، اندلعت ثورة 17 تشرين الأول وطال أمدها، مع ما رافقها من شلل شمل معظم مؤسسات الدولة ومرافقها، لتتداخل معها في أواخر شباط من العام 2020 جائحة كورونا. استتبع كل ذلك بالأزمة الاقتصادية والمالية وتدني قيمة العملة الوطنية ما انعكس سلباً على ميزانية المجلس الدستوري التي لم تعد تكفي لتأمين الحاجات الضرورية الملحّة، وتوقفت الشركة التي كانت مولجة بصيانة الموقع الالكتروني للمجلس وتحميله النشاطات المهمة عن متابعة عملها.
وكأن القدر كان يتربص بالمجلس الدستوري تحديداً لشل نشاطه فغيب الموت في 2/1/2021 العضو الياس بو عيد، وفي 9 شباط 2021 العضو عبد الله الشامي وفي 8/5/2021 العضو أنطوان بريدي كما غيب الموت أيضاً في 4/11/2022 المسؤولة عن المكتبة السيدة ريتا سعادة.
كل ما تقدم، وبنوع خاص تفشي جائحة كورونا بشكلها المخيف وتدني قيمة النقد الوطني، لم تؤثر على متابعة المجلس لنشاطاته بشكل شبه عادي، فهو لم يقفل ابوابه في تلك الآونة الا عشرة أيام متواصلة لتطهير المقر بسبب إصابة بعض الأعضاء والموظفين بالكورونا، واستأنف بعدها نشاطاته فعقد بعض الاجتماعات عن بعد للتداول في بعض الملفات والأمور الإدارية، ونظم بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوروبي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية ورشة عمل بواسطة الانترنت يومي 30و31 آذار 2021 موضوعها دور المجلس الدستوري في حل المنازعات الانتخابية، شارك فيها الرئيس السابق للمجلس الدكتور عصام سليمان والمحامية ميراي نجم ولم تكن يومذاك عضوا في المجلس، كما شارك، بواسطة الانترنت أيضاً، بشخص رئيسه القاضي طنوس مشلب (كاتب هذه الكلمة) والعضوين فوزات فرحات والياس مشرقاني في المؤتمر التاسع لرؤساء المحاكم الدستورية الفرنكوفونية بعنوان الطابع الجماعي للقرارات La collégialité .
وبعد تحسن الأوضاع الناتجة عن الثورة وعن جائحة كورونا نسبياً، مطلع العام 2022، وقبل موعد الانتخابات النيابية في أيار من العام المذكور، عمد، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوروبي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، الى تنظيم ورشتي عمل في فندق راديسون بلو الأولى في 18/3/2022 مع هيئة الاشراف على الانتخابات ،والثانية في 12/4/2022 شاركت فيها الهيئة المذكورة، والممثلة المقيمة لبرنامج الامم المتحدة الانمائي السيدة ميلاني هاونشتاين، ومدير الوكالة الوطنية للتنمية الدولية في لبنان السيد كلود زولو، ومسؤولة الشؤون السياسية في الاتحاد الاوروبي السيدة هانا سيفيرين وحضرها ممثلون عن كل من له علاقة بالعملية الانتخابية وتحديداً وزارة الخارجية والمغتربين ووزارة العدل ومجلس القضاء الاعلى وعدد من منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية المعنية بالرقابة على الانتخابات، ودون حضور وزارة الداخلية والبلديات المعنية المباشرة بالانتخابات والتي بقيت أسباب عدم حضورها ومشاركتها غير معروفة.
كل تلك الورش كانت للإضاءة على ما يمكن ان يكتنف العملية الانتخابية من اخطاء ومخالفات، وما يرافقها من صعوبات من تاريخ تقديم الترشيحات، مروراً بيوم الانتخابات وعمليات الفرز في الأقلام وفي اللجان، وصولاً الى إعلان النتائج والتي تنعكس سلباً على البت بالطعون، وبقصد تجنب كل تلك الأخطاء وإزالة الصعوبات لتتسم العملية الانتخابية بالشفافية، فيقل عدد الطعون من جهة ويسهل بالنتيجة على المجلس الدستوري البت في ما يمكن ان يرد من طعون.
ولم يكتف المجلس بذلك، إنما نظم أيضاً ورشة تدريب تقنية في مقره في 14/6/2022 حول النظام الإلكتروني لإدارة نتائج الانتخابات، شارك فيها رئيسه وجميع الأعضاء للوقوف على كيفية إدخال النتائج وما إذا كانت قابلة للوقوع في الخطأ أو احتمال التزوير.
في مرحلة ورود الطعون وقبل ان يجري الاطلاع عليها ويتم تعيين المقررين، سرت التكهنات والتوقعات حول نتائجها في الكثير من الصحف وعلى وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ووسائل التواصل، وتكررت حتى كادت تترسخ لدى الكثيرين قناعة بأن تلك النتائج قد صدرت فعلاً او انها محسومة.
وانطلاقا من القناعة بوجوب الانفتاح على الرأي العام والتواصل معه، تعزيزاً للشفافية في عمل المجلس، الذي ليس لديه ما يخفيه الا سر المذاكرة، عمد رئيسه الى عقد مؤتمر صحفي قبل المباشرة في درس الطعون طمأن فيه من حضره، ومن ورائهم الرأي العام ، ان كل ما يتم تناقله من أخبار هو كناية عن توقعات أو اشاعات أو تمنيات، وإلى ان النتائج لن تكون إلا وفق ما يفرضه القانون، وظل على تواصل مع جميع الوسائل الراغبة بالحصول على معلومات ، يزودهم بكل ما يجوز الإفصاح عنه، وعقد مؤتمرات في كل مرة كان يصدر فيها دفعة من القرارات مؤكداً نزاهة وعمق التحقيق فيها، وفي المراجعات الباقية وفقاً للأصول، وان بعض المزاعم عن وجود تدخلات سياسية مع المجلس أو بعض أعضائه، ليس لها وجود إلا في مخيلات أصحابها، وان الماء ستكذب الغطاس، وهذا ما حصل فعلاً في نهاية المطاف.
وبعد الانتخابات والانتهاء من بت الطعون عقد المجلس ورشة في 29/3/2023 بحضور ومشاركة جميع من كانوا في ورشة 12/4/2022 لبيان ما اعترضه من صعوبات في بت الطعون، آملا أن يكون لدى المعنيين الوقت الكافي للقيام بالإصلاحات المطلوبة قبل موعد الانتخابات المقبلة في العام 2026،
كل تلك الورش انتهت باقتراحات وتوصيات، إذا عُمل بها، يمكن الوصول الى انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة يقتنع الجميع بنتائجها، بمن فيهم المرشحون الخاسرون، ويشهد بنزاهتها المجتمعان المحلي والدولي.
وتجدر الملاحظة ان الانفتاح المحكي عنه كان له نتائج إيجابية إذ أصبحت معظم وسائل الاعلام تنقل أخبار المجلس بكل شفافية وتجرد وفقاً لما يزودها بها رئيسه.
في أواسط العام 2023 وبموازاة نشاطه اليومي لناحية البت بالطعون بدستورية القوانين والتواصل مع المنظمات العربية والدولية بشأن المشاركة في مؤتمرات المحاكم والمجالس الدستورية الفرنسية A.C.C.F ومؤتمرات الاتحاد العربي للمحاكم والمجالس الدستورية العربية وتزويدها بالدراسات والقرارات لنشرها، كان المجلس يعمل من أجل طباعة قرارته والكتاب السنوي، ولتنظيم مؤتمر في أواسط العام 2024 بمناسبة مرور ثلاثين سنة على بدء عمله، وقد تأجل موعده مراراً بسبب ظروف الحرب ثم حدد بالتعاون مع مؤسسة كونراد اديناور مؤتمراً في 3/10/2024 دعا اليه كلا من رؤساء المحاكم الدستورية في مصر والأردن وفلسطين والكويت والعراق، ومؤتمراً ثانياً في أوائل كانون الأول من العام إياه بالتعاون مع ال U.N.D.P التي تعهدت مشكورة بطباعة قرارات المجلس منذ العام 2019 ،
ولكن، وقبل حلول موعدي المؤتمرين، توسعت دائرة الحرب وطالت معظم مناطق لبنان، وبنوع خاص منطقة مقرّ المجلس التي كان لها النصيب الأكبر من القصف الذي ألحق به أضراراً، وحال هذه المرة دون إمكان متابعة العمل حضورياً لحوالي الشهرين، وتسبب بإلغاء المؤتمرين ولكن ظلّ التواصل قائماً بين أعضاء المجلس لمتابعة شؤونه، وبينهم وبين مؤسستي ال UNDP وكونراد اديناور، وتمت بالنتيجة طباعة القرارات في مجلدين احدهما للطعون في دستورية القوانين وثانيهما للطعون في الانتخابات النيابية وصدر الكتاب السنوي في مجلد واحد من العام 2019 الى العام 2024. ثم اعيد عقد المؤتمر، الذي كان مقرراً في 3/10/2024، بتاريخ 17/6/2025-رغم اعتذار جميع المشاركين من الدول العربية لحصول الحرب بين إسرائيل وإيران التي تسببت بإقفال الأجواء وتوقف حركة الطيران، وتقرر تأجيل المؤتمر الثاني خاصة وان ولاية المجلس تنتهي مبدئياً في 23/8/2025.
ورغم ان الولاية شارفت على الانتهاء فإن المجلس لم يوفر جهداً في متابعة السعي لتحسين أوضاعه اللوجستية وتأكيد حضوره في المحافل الدستورية الدولية والإقليمية.
فعلى الصعيد اللوجستي بقي على تواصل مع مؤسسة U.N.D.P التي باشرت بتجديد وتحسين بريده الالكتروني وكلفت بذلك السيدة سيلين الهاشم التي قامت بإظهاره بحلة جديدة، وحملته ما استجد من أخبار المجلس ونشاطاته والقرارات، ضمن تبويب سهل المنال، كما اخذت ال U.N.D.P على عاتقها، تقوية الطاقة الشمسية بشكل يؤمن كل احتياجات المجلس وباشرت الفرق المختصة من قبلها بإجراء الكشوفات واعداد الدراسات.
وعلى صعيد نشاطه الأكاديمي فقد أكد المجلس تلبية دعوة المحاكم والمجالس الدستورية الفرنكوفونية A.C.C.F. لحضور المؤتمر الذي سيعقد في مدريد- اسبانيا بين 28 و31 تشرين الأول 2025 حول حقوق الانسان في الأجيال المستقبلية Les droits de l’homme des générations futures، وتلبية دعوة اتحاد المحاكم والمجالس العربية لحضور الملتقى العلمي الثاني عشر للاتحاد، تحت عنوان "أثر الحكم الدستوري في النظم الدستورية المقارنة" والذي سيعقد في الرباط في المملكة المغربية في 12 و13 تشرين الثاني 2025.
كما قررت الهيئة العامة بتاريخ 21/8/2025 ترشيح المجلس لعضوية مكتب المؤتمر العالمي حول العدالة الدستورية La conférence mondiale sur la justice constitutionnelle عن مقعد قارة آسيا-أوقيانيا،
نأمل، ونحن على شفير انتهاء الولاية مرتاحو الضمير لما تمكنا من القيام به، أن تستقر الأوضاع في المنطقة عامة وفي لبنان بشكل خاص، وأن يكون للأعضاء الجدد الذين سيتولون مهام المجلس حظّ أوفر مما توفر لنا، على جميع الأصعدة، وأن يقوموا بدورهم بحراسة الدستور على أكمل وجه ويكونوا العين الساهرة على الحقوق والحريات والفصل بين السلطات من جهة وبين السلطات والأفراد من جهة ثانية، لتترسخ في عهدهم أكثر مبادئ دولة الحق والقانون ويبقى لبنان متربعاً على منبر العدالة الدستورية دولياً وإقليمياً، وتظل عاصمته بيروت، وبكل جدارة، أم الشرائع.